كيف
يقدر قدر دار غرسها الله بيده، وجعلها مقرًا لأحبابه، وملأها من رحمته وكرامته
ورضوانه، ووصف نعيمها بالفوز العَظِيم، وملكها بالملك الكبير، وأودعها جَمِيع
الْخَيْر بحذافيره، وطهرها من كُلّ عيب وآفة ونقص.
والجنة هي ذلك النعيم الأبدي الذي لا يضاهيه
في جماله ولا في كماله أي شيء في الدنيا، قد حُجبت بالمكاره لتكون غاية عظيمة لا
يُدركها إلا من صبر وجاهد في سبيل الله. هذا الحجاب الذي يحيط بها، يُظهر حقيقة أن
الوصول إلى الجنة ليس طريقًا مفروشًا بالورود، بل هو طريق محفوف بالتحديات، ملتحف
بالصبر والعزم، مغلف بالطاعات التي تكلف النفس الجهد لكنها تجلب لها الصفاء والقرب
من الله.
المكاره ليست عقبات في سبيل المنع، بل هي
درجات يرقى بها المؤمن نحو العلو والمقام الرفيع. إنما حُجبت الجنة بالمكاره لتكون
اختبارًا يُميز به الصادق من المدّعي، والمجاهد من المتكاسل، والمؤمن من المستهين
بنعمة السعي لله. هذا الحجاب يشبه الستار الذي يحجب أعظم لوحة فنية، لا يُرفع إلا
لمن دفع الثمن بالكفاح والإخلاص.
المعنى البلاغي لهذا الحجب أن الجنة خلف
المكاره كالدُرّ الكامن في الأعماق، لا يصل إليه إلا الغواص الذي يواجه أمواج
البحر ويُقاوم تياراته، ولا يتوقف إلا حينما يلامس ذلك الجمال المخبوء. فالمكاره
في سبيل الجنة ليست عائقًا، بل هي الحاجز الذي يصقل الروح ويجعلها أحق بهذا
النعيم. إنها السلم الذي يعلو به المؤمن نحو السماء، خطوة تلو أخرى، في كل جهد
بذله وكل معصية اجتنبها وكل ابتلاء صبر عليه، يرتفع هذا الحجاب قليلاً.
كما أن هذه المكاره هي انعكاس لعدل الله، حيث
لا تُعطى الجنة إلا لمن استحقها، فمن عرف قيمتها وجاهد لتحصيلها، وجدها تحفة
تتناسب مع ذلك الجهد، كمن يطرق أبواب القصور ليُدخل فيها بتكريم يليق بجهاده.
حجب الجنة بالمكاره: هو دعوة للتأمل، دعوة
للنظر إلى قيمة ما وراء هذا الحجاب، دعوة للصبر الذي يثمر في النهاية راحة أبدية،
دعوة للإيمان الذي يجعل النفوس ترضى بالتعب لتنال الرضوان. كأن المكاره تغدو درجات
نورانية ترتفع بها الروح لتصل إلى ذلك النعيم المخبأ خلف الحجاب.
ما أروع أن تدرك النفس المؤمنة أن المكاره هي
مفتاح أبواب الجنة، أنها ليست عقابًا بل تربية للروح، ليكون هذا الحجاب شاهدًا على
كمال العلاقة بين العبد وربه، وعلى حقيقة أن النعيم الذي خلفه لا يكون إلا لمن خاض
معركة الصبر والطاعة وخرج منها منتصرًا، حاملًا قلبًا نظيفًا وروحًا صافية.
وحين يُرفع الحجاب، يقف المؤمن أمام أبواب
الجنة، وقد أصبحت المكاره التي كانت تثقل كاهله في الدنيا أجنحةً ترفعه، ليستقبل
الوعد الإلهي الذي فاق كل خيال، فتكون الجنة أُعطيت لمن استحقها، كهدية خالدة تليق
بمن تجاوز هذا الحجاب بنور الإيمان وعزم الثبات. إنها صورة بلاغية تتناغم فيها
المحبة الإلهية مع سعي الإنسان، ليظهر أن الحجاب بالمكاره لم يكن إلا تعبيرًا عن
عدل الله وجلاله. فما أعظم هذا الحجاب وما أجمل ما وراءه!
فعن
أبي هريرة -t - عن رسول الله - r - قال: «لَمَّا خلق الله
الجنة والنار، أرسل جبرائيل إلى الجنة فقال: انظر إليها، وإلى ما أعددتُ لأهلها
فيها، قال: فجاءها فنظر إليها، وإلى ما أعد الله لأهلها فيها، قال: فرجع إليه،
قال: وعِزَّتِكَ لا يسمع بها أحدٌ إلا دخلها، فأمر بها فَحُفَّتْ بالمكاره، فقال:
ارجعْ إليها، فانظرْ إليها، وإلى ما أعددتُ لأهلها فيها، قال: فرجع إليها، فإذا هي
قد حُفَّت بالمكاره، فرجع إليه، فقال: وعِزَّتِكَ لقد خفتُ أن لا يدخلَها أحد،
قال: اذهب إلى النار فانظر إليها، وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فنظر إليها فإذا هي
يركب بعضها بعضاً، فرجع إليه فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بها فحفت
بالشهوات، فقال: ارجع فانظر إليها، [فرجع إليها] فنظر إليها فإذا هي قد حُفَّت
بالشهوات، فرجع وقال: وعِزَّتِكَ لقد خشيتُ أن لا ينجوَ منها أحدٌ إلا دخلها».
[سنن النسائي (3763) وقال العلامة الألباني: صحيح]
قال العلامة صديق حسن خان – رحمه الله -:
والمراد بالشهوات مرادات النفوس ومستلذاتها وأهويتها. [يقظة أولي الاعتبار (220)]
وقال القرطبي - رحمه الله -: الشهوات كل ما يوافق
النفس ويلائمها، وتدعو إليه، ويوافقها، وأصل الحفاف الدائر بالشيء المحيط به، الذي
لا يتوصل إليه بعد أن يتخطى. [المصدر السابق]
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -:
فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَكَارِهِ هُنَا مَا أُمِرَ الْمُكَلَّفُ
بِمُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ فِيهِ فِعْلًا وَتَرْكًا كَالْإِتْيَانِ بِالْعِبَادَاتِ
عَلَى وَجْهِهَا وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا وَاجْتِنَابِ الْمَنْهِيَّاتِ قَوْلًا
وَفِعْلًا وَأَطْلَقَ عَلَيْهَا الْمَكَارِهَ لِمَشَقَّتِهَا عَلَى الْعَامِلِ
وَصُعُوبَتِهَا عَلَيْهِ وَمَنْ جُمْلَتِهَا الصَّبْرُ عَلَى الْمُصِيبَةِ
وَالتَّسْلِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ فِيهَا وَالْمُرَادُ بِالشَّهَوَاتِ مَا
يُسْتَلَذُّ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مِمَّا مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْ تَعَاطِيهِ
إِمَّا بِالْأَصَالَةِ وَإِمَّا لِكَوْنِ فِعْلِهِ يَسْتَلْزِمُ تَرْكَ شَيْءٍ
مِنَ الْمَأْمُورَاتِ وَيُلْتَحَقُ بِذَلِكَ الشُّبُهَاتُ وَالْإِكْثَارُ مِمَّا
أُبِيحَ خَشْيَةَ أَنْ يُوقِعَ فِي الْمُحَرَّمِ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا يُوصَلُ
إِلَى الْجَنَّةِ إِلَّا بِارْتِكَابِ الْمَشَقَّاتِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا
بِالْمَكْرُوهَاتِ وَلَا إِلَى النَّارِ إِلَّا بِتَعَاطِي الشَّهَوَاتِ وَهُمَا
مَحْجُوبَتَانِ فَمَنْ هَتَكَ الْحِجَابَ اقْتَحَمَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ
هَذَا الْخَبَرُ وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ فَالْمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ.
[فتح الباري(11/320)]
وعن أبي هريرة - t - أن رسول الله - r - قال: «حُجبت النار
بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكارِه». [البخاري(6487)، مسلم(2823)]
قال العلامة النووي - رحمه الله -:
ومعناه لا يوصل الْجَنَّةَ إِلَّا بِارْتِكَابِ الْمَكَارِهِ وَالنَّارَ
بِالشَّهَوَاتِ وَكَذَلِكَ هُمَا مَحْجُوبَتَانِ بِهِمَا فَمَنْ هَتَكَ الْحِجَابَ
وَصَلَ إِلَى الْمَحْجُوبِ فَهَتْكُ حِجَابِ الْجَنَّةِ بِاقْتِحَامِ الْمَكَارِهِ
وَهَتْكُ حِجَابِ النَّارِ بِارْتِكَابِ الشَّهَوَاتِ فَأَمَّا الْمَكَارِهُ
فَيَدْخُلُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهَا
وَالصَّبْرُ عَلَى مَشَاقِّهَا وَكَظْمُ الْغَيْظِ وَالْعَفْوُ وَالْحِلْمُ
وَالصَّدَقَةُ وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْمُسِيءِ وَالصَّبْرُ عَنِ الشَّهَوَاتِ
وَنَحْوُ ذَلِكَ وَأَمَّا الشَّهَوَاتُ الَّتِي النَّارُ مَحْفُوفَةٌ بِهَا
فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا الشَّهَوَاتُ الْمُحَرَّمَةُ كَالْخَمْرِ وَالزِّنَا
وَالنَّظَرِ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ وَالْغِيبَةِ وَاسْتِعْمَالِ الْمَلَاهِي
وَنَحْوِ ذَلِكَ وَأَمَّا الشَّهَوَاتُ الْمُبَاحَةُ فَلَا تَدْخُلُ فِي هَذِهِ
لَكِنْ يُكْرَهُ الْإِكْثَارُ مِنْهَا مَخَافَةَ أَنْ يَجُرَّ إِلَى
الْمُحَرَّمَةِ أَوْ يُقَسِّي الْقَلْبَ أَوْ يَشْغَلَ عَنِ الطَّاعَاتِ أَوْ
يُحْوَجَ إِلَى الِاعْتِنَاءِ بتحصيل الدنيا.[ شرح مسلم(17/165)]
قال العلامة العلم ابن القيم - رحمه
الله -: أنه قد استقرّت حكمته سبحانه أنّ السعادة والنعيم والراحة لا يوصل إليها
إلاَّ على جسر المشقة والتعب، ولا يدخل إليها إلاَّ من باب المكاره والصبر وتحمّل
المشاقّ. ولذلك حفّ الجنة بالمكاره والنار وبالشهوات.
ولذلك أخرج صفيّه آدم من الجنة وقد خلَقها له،
واقتضت حكمته أن لا يدخلها دخول استقرار إلاَّ بعد التعب والنصب، فما أخرجه منها
إلاَّ ليُدخله إليها أتمّ دخول. فلله كم بين الدخول الأول والدخول الثاني من
التفاوت.
وكم بين راحة المؤمنين ولذّتهم في الجنة بعد مقاساة ما قبلها وبي لذّتهم لو
خلقوا فيها. وكم بين فرحة من عافاه بعد ابتلائه وأغناه بعد فقره وهداه بعد ضلاله
وجمع قلبه بعد شتاته وفرحة من لم يذق تلك المرارات. [شفاء العليل (1/234)]
وقال ابن القيم - رحمه الله -:
يا
سلعةَ الرحمن ِلست رخيصة ... بل أنتِ غالية ٌعلى الكسلان
يا
سلعة الرحمن ليس ينالُها ... في الألفِ إلا واحدٌ لا اثنان
يا
سلعة الرحمن أين المشتري ... فلقد عُرِضتِ بأيسر الأثمان
يا
سلعة الرحمن هل من خاطب ... فالمهرُ قبل الموتِ ذو إمكان
يا
سلعة الرحمن لولا أنَّها ... حُجِبَتْ بكلِّ مكاره ِالإنسان
ما
كان قطُّ من متخلفٍ ... وتَعَلتْ دارُ الجزاءِ الثاني
لكنَّها
حُجِبَتْ بكلِّ كريهةٍ ... ليُصدَّ عنها المبطلُ المتواني
وتنالها
الهممُ التي تَسْمُو ... إلى ربِّ العلا بمشيئةِ الرحمن
فاتْعَبْ
ليوْم ِمعادِك الأدنى ... تَجِدْ راحاتهِ يومَ المعادِ الثاني.
كتبه/
أبو
محمد طاهر السماوي وفقه الله
٢٨/
رمضان/ ١٤٤٦هجرية
نسأل
الله أن ينفع بها الإسلام والمسلمين.
════ ❁✿❁ ════
واتساب
https://whatsapp.com/channel/0029VaZw3Y5HbFUzMEIXOv1y
✍
انشـــر.فنشر.العــلم.من.أجل.القربـــات.