*✍🏻 [اعملوا بصمت واعرفوا لأهل الصمت فضلهم]*
يا سالك دربَ الحق، ويا طالبَ رفعةِ الإسلام، ويا منشدَ نَشرِ السنة، ويا محبَّ العلم، إليكَ دعوةٌ من القلبِ يُجلّلها الوقارُ، وتُحيطُ بها الأنوار.
*اعمل بصمت!*
إنَّ العملَ الصامتَ هو جوهرُ العمل، وروحُ الإخلاصِ، ومِشكاةُ التوفيقِ. كُن كالغيثِ ينزلُ رقيقًا فيُحيي الأرضَ بعدَ موتها، ولا يتركُ خلفَهُ ضجيجًا ولا صخبًا.
فكم من أعمالٍ عظيمةٍ بُنيتْ في الخفاء، وكم من أرواحٍ ارتقتْ مدارجَ الكمالِ دون أن ترفعَ صوتًا بالدعاء، أو تطلبَ ثناءً من الورى!
إن خدمةَ الإسلامِ هي غايةُ الغاياتِ، ونشرَ السنةِ هو قمةُ المنى، وتحصيلَ العلمِ هو مفتاحُ الرشادِ؛ فاجعلْ كلَّ ذلكَ خالصًا لوجهِ الله، بعيدًا عن بهرجةِ الظهورِ، وصخبِ الأفواه. ليتك تُدركُ أنَّ بركةَ العملِ تكمنُ في إخفائهِ، وأنَّ نورَ الإنجازِ يشرقُ من طياتِ الصمتِ.
ألم نقرأ {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]. وأن هذه الآيةُ الكريمةُ تُعلي من شأنِ الإخلاصِ، وتجعلهُ أساسَ الدينِ وجوهرهُ. العملُ الصامتُ هو تحقيقٌ لهذا الإخلاصِ.
ألم نقرأ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۖ لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 264]. وأن هذه الآيةُ تُشبّهُ حالَ المرائي بحجرٍ أملسَ عليهِ ترابٌ، فإذا أصابهُ المطرُ الغزيرُ ذهبَ ما عليهِ من ترابٍ، وبقيَ صلدًا لا شيءَ عليهِ. وهكذا أعمالُ المرائي لا ثمرَ لها ولا أجرَ.
ألم نحفظ الأثر الذي جاء عن محمود بن لبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر) قالوا: يا رسول الله، وما الشرك الأصغر؟ قال: (الرياء) (رواه أحمد). ويبين هذا الحديثُ ويُحذّرُ من الرياءِ تحذيرًا شديدًا، ويصفهُ بالشركِ الأصغرِ، مما يدلُّ على عظيمِ خطرهِ.
إياكم والرياء وطلب المحامد والثناءات من الناس! هذه وصيةٌ جليلةٌ، وتحذيرٌ بالغٌ من سمومٍ تفتكُ بالقلوبِ، وتُفسدُ الأعمال. إن الرياءَ لَهُو الداءُ العضالُ الذي يُحبطُ الصالحاتِ، ويُطفئُ قناديلَ الإخلاصِ.
*اعملوا بصمت*
تأملْ معي كيفَ أنَّ من يطلبُ المحامدَ والثناءاتِ من الناسِ غالباً لا يوفّق ولا يُهدى ولا يستمر. إنَّ قلبهُ يُعلِّقُ سعادتهُ بمدحِ البشرِ، لا برضا ربِّ البشرِ. فإذا لم يجدْ ما يتوقُ إليه من مديحٍ، فترتْ همّتهُ، وخارتْ عزيمتهُ، وضلَّ عن السبيلِ. أن المديح لكثير من النفوس بمثابة الشحن الكهربائي إذا انقطع انقطعت الإضاءة والنور الصادر عن ذلك.
*اعملوا بصمت*
إنَّ المديحَ وطلبَ التقربِ والتزلُّفِ وإظهارَ أمورٍ ليستْ في الواقعِ هو من التشبعِ المذمومِ، الذي يُزيفُ الحقائقَ، ويُلبّسُ على النفوسِ. فالممدوحُ بغيرِ ما فيهِ هو كاللابسِ ثوبَ زورٍ، يتباهى بما ليسَ لهُ، ويُخدعُ نفسهُ قبلَ أن يُخدعَ غيرَهُ.
*فاعملوا بصمت.*
كم رأينا من يلهثُ خلفَ الأضواءِ، ويرفعُ عقيرتهُ بـ "حاضرنا يا شيخ، وخطبنا يا شيخ، وألّفتُ وكتبتُ يا شيخ"! وكأنَّ الجزاءَ والحسابَ والجنةَ بيدِ فلانٍ أو علانٍ، وكأنَّ الرفعةَ والتمكينَ بيدِ الناسِ والمخلوقين! اعملوا بصمت!!! فمن الناسِ من تشعرُ أنّهُ يفعلُ من أجلِ فلانٍ، ويُطلعُ فلانًا على كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ.
*اعملوا بصمت*.
ولقدِ اغترَّ الكثيرُ الفضلاء بمثلِ هؤلاءِ الأصنافِ، فقدموهُم ومدحوهُم، وظنوا أنهم صادقون، ولكن خيبوا آمالهم وظهرَ المكشوفُ ولو بعدَ حين. *واعملوا بصمت!*
*اعترفوا لأهلِ الصمتِ فضلهم، وإياكم ومن شعارِ: "ها أنا ذا فاعرفوني!" فإنَّ أهلَ الصمتِ هم أولئك الذينَ أدركوا حقيقةَ الدنيا وزيفَها، وعرفوا أنَّ الخبيئةَ الصالحةَ هي كنزُ العبدِ الحقيقيِّ.*
*اعملوا بصمت واعترفوا لأهل الصمت مكانتهم، فهم في الزوايا والخبايا تستمدون النصر من الله تعالى بهم. هؤلاءِ هم الجنودُ المجهولونَ، الذينَ لا يطلبونَ شهرةً ولا صيتًا، بل يُخلصونَ العملَ للهِ وحدهُ، فتُباركُ جهودُهم، وتُستجابُ دعواتُهم، ويُسدّدُ سعيهم. إنَّهم الأنقياءُ الذينَ لا تُشوّشُ قلوبَهم شهوةُ الظهورِ، ولا تُفسدُ أعمالَهم لذةُ المديحِ. بهم يُنصرُ الحقُّ، وبصمتِهم يُشرقُ نورُ الهدايةِ، فاحفظوا لهم قدرهم، واقتفوا أثرهم.*
فاجعلْ عملكَ سرًا بينكَ وبينَ ربِّكَ، فإنَّ الأسرارَ ترفعُ الأقدارَ، وتُباركُ الأعمارَ، وتُورثُ القبولَ في الأرضِ والسماء.
كتبه أبو محمد طاهر السماوي
١٦/ ذي الحجة ١٤٤٦هجرية
*نسأل الله أن ينفع بها الإسلام والمسلمين*