المقدمة
مقدمة الشارح
الحمد لله، المتفرد بالوحدانية، والمتصف بالصمدية، وبجميع الصفات العلية، والمسمى بالأسماء الحسنى السَنِية، تبارك وتعالى، وتنزه وتقدس عن المثيل، والتنديد، موجبا على عباده التنزيه، والتوحيد، لا إله إلا هو الحميد المجيد، الفعال لما يريد.
والصلاة والسلام على أعظم من لازم التوحيد، ودعا إليه محذرا من الشرك والتنديد، وأخرج الله به الناس من عبادة العبيد إلى خالص الإيمان وسبيل العرفان وسلك به الطريق السديد، وألزمهم كلمة التقوى وكل فعل حميد، وعلى آله وصحبه ومن سار على سيرهم في كل فعل حميد.
وأشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له شهادة أرجو نفعها في يوم الوعيد، وأرجوا بها فضل الله المزيد.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله القائل أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ ما بقي التوحيد.
أما بعد:
فإن «كتاب التوحيد»([1]) الذي هو حق الله على العبيد، للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب التميمي رَحِمَهُ اللَّهُ كتاب عظيم، وسفر نفيس، وهو اسم على مسماه، ولفظ يحمل معناه، حيث تضمن أعظم أبواب الدين، وهو التوحيد، فمن أجل الدعوة إليه أرسل الله عَزَّ وَجَلَّ الرسل، ولبيانه أنزل سبحانه وتعالى الكتب، ولظهوره شرع الله الجهاد، وقامت شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبذل النصيحة، ولمن حققه زخرفت الجنان، ولمن خالفه أضرمت النيران، فكان لزامًا على طلاب العلم وغيرهم من المسلمين أن يشمروا في تعلم التوحيد، والعمل به، وتعليمه، والدعوة إليه، فهذا قطب العبادة ورحاها وأسها ومبناها، ولفظها ومعناها، ولهذه المنزلة كان القرآن كله دعوة إلى التوحيد، قال الإمام ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنَّ الْقُرْآنَ: إِمَّا خَبَرٌ عَنِ اللَّهِ، وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَهُوَ التَّوْحِيدُ الْعِلْمِيُّ الْخَبَرِيُّ، وَإِمَّا دَعْوَةٌ إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَخَلْعُ كُلِّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ، فَهُوَ التَّوْحِيدُ الْإِرَادِيُّ الطَّلَبِيُّ، وَإِمَّا أَمْرٌ وَنَهْيٌ، وَإِلْزَامٌ بِطَاعَتِهِ فِي نَهْيِهِ وَأَمْرِهِ، فَهِيَ حُقُوقُ التَّوْحِيدِ وَمُكَمِّلَاتُهُ، وَإِمَّا خَبَرٌ عَنْ كَرَامَةِ اللَّهِ لِأَهْلِ تَوْحِيدِهِ وَطَاعَتِهِ، وَمَا فَعَلَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَمَا يُكْرِمُهُمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، فَهُوَ جَزَاءُ تَوْحِيدِهِ وَإِمَّا خَبَرٌ عَنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَمَا فَعَلَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ النَّكَالِ، وَمَا يَحِلُّ بِهِمْ فِي الْعُقْبَى مِنَ الْعَذَابِ، فَهُوَ خَبَرٌ عَمَّنْ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ التَّوْحِيدِ. فَالْقُرْآنُ كُلُّهُ فِي التَّوْحِيدِ وَحُقُوقِهِ وَجَزَائِهِ، وَفِي شَأْنِ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ وَجَزَائِهِمْ. اهـ من «مدارج السالكين» (۳/٤۵۰).
وقال الله عَزَّ وَجَلَّ مبينا عظم التوحيد: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل:۳٦]، فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه بعث ﴿فِي كُلِّ أُمَّةٍ﴾ أي: في كل جماعة من الناس، وفي كل فترة من الزمان ﴿رَسُولًا﴾ يعلم الناس التوحيد، ويدعوهم إليه، وهذا لمنزلته الرفيعة، وينهاهم عن الشرك والتنديد، ويحذرهم منه وذلك لمنزلته الوضيعة.
وقال الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء:۲۵]، فالله عَزَّ وَجَلَّ أخبر في هذه الآية: بأنه ما أرسل من رسول إلا أوحى إليه بالتوحيد، علما وعملا، ومن هذا يُعلم أنّ جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام من نوح عَلَيْهِ السَّلَامُ إلى أن ختمهم الله تعالى بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعون الناس إلى إفراد الله سبحانه وتعالى بما يجب له في خلقه وملكه وتدبيره، وفي عبادته، وأسمائه وصفاته؛ لأن الله عَزَّ وَجَلَّ هو المعبود بحق، وغير الله سبحانه إن عُبِد فبباطل، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ [لقمان:۳۰].
والتوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام.
وهذا التقسيم لابد أن يُفهم فهمًا دقيقًا؛ وذلك أن أهل البدع المخالفين لهذا الباب ينكرونه، وهو أشد عليهم من ضرب المطارق على الرؤوس، والسبب في ذلك: أن أغلب الطوائف تعتقد أن توحيد الله تعالى هو إفراده بالخلق، والرزق، والملك، والتدبير. وهذا هو توحيد الربوبية وهو النوع الأول من أنواع التوحيد.
فأغلب من في الأرض من المشركين والمنددين يقرون بإفراد الله تعالى بالخلق والملك والتدبير، وقد أخبر الله تعالى عنهم بذلك في مواطن من كتابه على ما يأتي، بما فيهم اليهود والنصارى، ولا ينكر ذلك إلا شواذ من البشرية كفرعون حين قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ [النازعات:۲٤] وقال: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص:۳۸] وهذا على سبيل المكابرة فقد قال تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل:۱٤]، وكم قصَّ الله تعالى علينا في القرآن من خبر المشركين: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ﴾ [لقمان:۲۵]، وهذا الاعتراف منهم والإقرار بالربوبية لم يدخلهم في الإسلام، بل قاتل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل من أبى أن يقول: (لا إله إلا الله) ويلتزم بمقتضاها ويعمل بمعناها.
وأكثر الناس من عبّاد القبور يشركون وينددون، وإذا سألتهم عن التوحيد وعن معنى (لا إله إلا الله)؟ قالوا: لا معبود إلا الله، وربما قالوا: لا موجود إلا الله، وربما قالوا: لا خالق إلا الله، وكل هذه التعاريف لـ(لا إله إلا الله) غير صحيحة، مخالفة لدلالة الكتاب والسنة، ومعناها الحق: لا معبود بحق إلا الله، وغير الله إن عُبِد فبباطل، لقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ [الحج:٦۲].
النوع الثاني: وهو توحيد الألوهية الذي أُنزلت به الكتب وأُرسلت به الرسل وانقسم الناس بسببه إلى مؤمنين أبرار ومشركين فجار، وسيأتي تفصيله والكلام عليه في هذا الكتاب إن شاء الله عَزَّ وَجَلَّ.
النوع الثالث: توحيد الأسماء والصفات وهو الدال على إثبات كل ما أثبته الله عَزَّ وَجَلَّ لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات العلى وأثبتها له رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعيدًا عن التمثيل والتكيف وعن التعطيل والتحريف، على ما يأتي إن شاء الله.
فإن قال قائل ما دليلكم على تقسيم التوحيد إلى هذه الأقسام؟ فالجواب أنّ ذلك عُلِمَ بالاستقراء لأدلة الكتاب والسنة، فأول سورة افتتح الله عَزَّ وَجَلَّ بها كتابه دالة على ذلك، قال تعالى فيها: ﴿بِسْمِ اللهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:۲-۵].
فهذه الآيات تضمنت أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية: وهو إفراد الله بالخلق والملك والتدبير في قوله تعالى: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وتوحيد الألوهية: وهو إفراد الله بالعبادة في قوله تعالى: ﴿للهِ﴾ وقوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، وتوحيد الأسماء والصفات: وهو إفراد الله عَزَّ وَجَلَّ بما يجب له في أسمائه وصفاته في قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾.
وهذا الكتاب الذي ألفه الإمام محمد بن عبد الوهاب، كتاب مفيد جدًا للعلماء والدعاة، بل لجميع المسلمين، بناه مؤلفه رَحِمَهُ اللَّهُ وصنفه على دلالة الكتاب والسنة، فهو يأتي بالآيات والأحاديث مستدلا بها على المقصود، وقد تنكر لهذا الكتاب ولمؤلفه، المشركون والمبتدعون المخالفون لدين الرسل، لأنه أتى على بدعهم وشركياتهم من أساسها.
وقد شُرح هذا الكتاب بشروح كثيرة، بين مطول، ومختصر ومن أشهر هذه الشروح: «فتح المجيد» لمؤلفه العلامة عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب التميمي رَحِمَهُ اللَّهُ حفيد المصنف المتوفى (۱۲۸۵)، و«تيسير العزيز الحميد» للعلامة سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رَحِمَهُ اللَّهُ المتوفى (۱۲۳۳) قتلًا أمر بقتله إبراهيم باشا، و«التمهيد» للشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله، و«القول السديد» للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رَحِمَهُ اللَّهُ المتوفى (۱۳۷٦)، و«القول المفيد» للعلامة محمد بن صالح العثيمين رَحِمَهُ اللَّهُ المتوفى (۱٤۲۱)، و«إعانة المستفيد» للعلامة صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله وغيرها وهذه الكثرة في شروحه تدل على أهمية الكتاب ومنزلته عند الموحدين، وعند أئمة الدين.
ومن هذا الباب أحببت أن تكون لي مشاركة وشرح مع قلة البضاعة فالله أسأل أن ينفع بهذا الشرح كما نفع بأصله، وأن يعينني على سلوك سبيل السلف في العلم والعمل، وأن يغفر لي ولوالديَّ، ولمشايخي، ولجميع المسلمين.
واسميته «فتح الوهاب شرح كتاب التوحيد للإمام محمد بن عبد الوهاب»
والحمد لله رب العالمين
كتبه/
*أبو محمد عبد الحميد بن يحيى بن زيد الحجوري الزُّعكري*
*وكان تدريس الكتاب في «دماج الخير»، وتفريغه ومراجعته في صنعاء، ومكة المكرمة حرسهما الله بالتوحيد.*
*([1]) كان البدء في تدريس «كتاب التوحيد» في (دار الحديث بدماج)، في يوم الخميس (۱۸) من شهر ذي القعدة الحرام، لعام (۱٤۳۳هـ).*
يتبع الدرس الثاني غداً إن شاءلله تابعو وانشرو
فتح_الوهاب_شرح_كتاب_التوحيد_نسخة_الطباعة👇👇 pdf
رابط ثاني من موقع الشيخ 👇👇👇